المسافر من الأدب التركيالاستاذ جنيد السعاويترجمة اورخان محمد عليمنذ أن عرفت نفسي وأنا أحمل حباً عميقاً للشيوخ والمعمرين ذوي الوجوه النورانية. لقد كانوا مصدر أجمل الذكريات في حياتي. ولكن الحادثة الآتية التي حدثت عام 1970 بدت الأول وهلة حادثة مزعجة.
كنت قد خرجت من صلاة الجمعة، وبينما كنت أحاول إخراج سيارتى من الموقف راجعاً إلى الخلف اذا بي أصدم ذلك الشيخ العجوز. نزلت من سيارتي وأسرعت إليه وأنا في قلق شديد … كان الخارجون من الجامع يحاولون مساعدته في النهوض من الأرض. ثم ساعدناه في الجلوس على المصطبة القريبة من مكان الوضوء.
قبضت على يديه متوسلاً :
-اصفح عني يا جدي! .. أنا الذى صدمتك .. ولكن يعلم الله أنني لم أشاهدك مع أنني كنت أنظر إلى الخلف.
حاول الشيخ أن يبتسم على الرغم من وضعه السئ... كان ظهره قد أحنته أعباء حياة يُقارب مئة عام، حتى أصبح ظهره المحنى موازياً للأرض بشكل لم أشاهده حتى الآن، وربما كان هذا هو السبب في أنني لم أستطع رؤيته من خلال الزجاج الخلفي للسيارة.
عندما كنت أحاول تنظيف ملابسه قال :
-لا بأس علىّ يا بنيّ!... نحن من الجيل الماضى. لن نستسلم بسرعة.
بعد جهد كبير أقنعته بالذهاب معي إلى صيدلية قريبة، بعد تنظيف وتعقيم الخدوش في وجهه حاولت أن أدس بعض النقود في جيبه ولكنه أمسك بيدي بسرعة غير منتظرة من قبل شخص في عمره. قال لي وهو يحبس يدي في كفيه المرتجفتين :
-ليرض الله عنك يا بنىّ … ولكني لا أستطيع أن أقبل منك كل هذا المقدار من النقود.
أدركت من قوله ( كل هذا المقدار من النقود) انه يشكو من أزمة مالية.
وعندما ألح سحبت جزء من المبلغ.
سألنى :
-أهذا المبلغ لي الآن ؟
أجبته :
-طبعاً … سأكون سعيداً جداً لو قبلته .
-إذن هل تستطيع أن تشتري به بطاقة سفر لي.
عندما رأى الشيخ دهشتي بدأ يسرد علىّ ما جرى له والذي هدّ كيانه وأضاف أعواماً إلى عمره، فقد ذهب إلى اسطنبول لزيارة حفيده المريض، والآن كان مسافراً يريد العودة إلى بيته في (بولو) أو حواليه (إذ لا أذكر اسم بلدته جيداً) . وبينما كان يخمن انه سيستطيع اداء صلاة الجمعة دون صعوبة إذ بالحافلة تتعرض إلى عطل، ولكى لا تفوته صلاة الجمعة جاء إلى جامعنا.
قال بنبرة حزينة سأظل أذكرها على الدوام :
- كنت أحمل مبلغاً قليلاً، ولكنه سُرق مني عندما كنت أتوضأ. وفى الصلاة لم أملك نفسي من البكاء... إذ لمن أمد يدي وممن أسأل ؟
مع أنني رويت هذه الحادثة لكل أصدقائي إلا أنني لم أكتبها الا هذا اليوم. منذ ذلك اليوم كلما رأيت يداً تحيي تحية الوداع أو تهز منديلاً تذكرت ذلك الشيخ الذي ودعته بعد أن صعد الحافلة وهو يدعو لي بعيون دامعة... تذكرت ذلك الشيخ وتذكرت رحمة الله الذي أخذ بيده وجنبه الآلام .